ازمه شباب اليوم

أزمة القيم بين الثبات والجمود ومتطلب التغيير .

إن القيمة تكوين عقلي على مستوى عال من التجريد، ووجود نظري عال يميز في تجريده وعلوه بين المقبول والمرفوض،وبين المستحسن والمستهجن (1) .

وقد صنف البعض القيم (2) بأنها قيم إلزامية بقوة القانون والعرف،وقيم تفضيلية كالخاصة بالمجاملات مثلاً، وقيم مثالية وهي التي يصعب تحقيقها ، كما يمكن أن تنتقل القيمة تحت هذا التقسيم من مستوى لآخر وهكذا ، وقد صنفت أيضاً على أنها قيم اجتماعية،وترويحية، وأخلاقية، وذاتية، وجسمانية،وأمنية، وقيم عملية (3)،وقيل إنها نوعان؛الأول هو ما يعتمد على الاختيار ولا توجد حتمية للتمسك أو التقيد بها ،والثاني يسمى القيم الأساسية وهي التي يشكل الخروج عنها تهديداً مباشراً لكيان الجماعة (القيم الملزمة)(4).
ويقسم البعض القيم في المجتمع الإسلامي إلى :العدل ، الشورى ،المساواة وتكافؤ الفرص ، المحبة ، التآخي ،الكرم والإيثار ، وغيرها (5).

وقد تكون التحولات في النظم السياسية على فترات زمنية متقاربة،وعجز الأسر العربية عن التطبيع الاجتماعي، وضعف تأصيل الانتماء في طفولة الأبناء،وضعف التربية الإسلامية السليمة؛ أهم الأسباب التي استحدثت قيماً في المجتمعات العربية لا وجود لها إلا في المجتمعات المادية .

ونجد مثالا لما سبق فيما حدث في مصر حيث أن تعرض الدولة لمجموعة من النكسات التنموية، انعكس بدوره على بناء النسق القيمي للمجتمع،مما كان له رد فعل حاد على الشباب المصري المعاصر باعتباره فئة من الفئات المكونة للبناء الاجتماعي،حيث مثلت تلك الانتكاسات محاور أزمة الشباب وذلك لاتصالها الوثيق بغموض وقتامة الصورة المستقبلية ، حيث أدى تردي الأوضاع السكنية والصحية والاقتصادية والتعليمية والمهنية ، إلى شعور الشباب بأزمة العدالة الاجتماعية،عدم التوازن الاجتماعي، وتهميش القيم الاجتماعية نتيجــة لتراجعها أمام المد المتزايد للقيم المادية وما صاحبها من اتجاهات استهلاكية ترفيهية(6).

وإن النكسة التنموية لا تنفصل بأي حال عن النكسة السياسية فقد أدى عدم الاستقرار السياسي إلى عدم استقرار اقتصادي في الدولة متمثلاً في عجز الخطط التنموية عن تحقيق أدني مستوى لائق لمعيشة أفراد المجتمع من الطبقة الغالبة، مما أدى إلى معايشتهم للنكسات الأيديولوجية المتمثلة في عدم وضوح أيديولوجيا المجتمع .

و" لا شك أن غياب قيمة العمل والنمط الإنتاجي الحقيقي الذي يعمل من خلاله الشباب (ليحققوا) طموحاتهم و(يؤكدوا) ذواتهم، وانتشار النمط الاستهلاكي المترتب على استيراد أنماط الحياة الغربية بمظاهرها السلبية وتعقد الصراع بين الأصيل العربي والمستورد الغربي مما يزيد من عملية اغتراب الشباب عن الواقع الذي يعيشونه وخلق واقع اجتماعي ثقافي اقتصادي متناقض يلهيهم عن الواقع الفعلي ويدفعهم إلى الهروب منه " (7) .

وتتعدد نماذج الشباب في فئاته المختلفة، ففي مجتمع الطلاب ، الطالب الكادح الذي يعمل ويدرس ، الطالب ذو النمط الاستهلاكي الذي ينظر للطالب العامل نظرة دونية، وأيضاً في مجتمع شباب الخريجين،من يفضل البطالة على بعض أنواع العمل التي لا تدر ربحاً كبيراً من وجهة نظره، ومنهم الذين يفضلون العمل في مهن ذوي الياقات البيضاء ، إلى غير ذلك من النماذج العديدة.

وقد تنشأ أزمة القيم لدى الشباب عن علاقاتهم بالدولة ومؤسساتها ، وعلى قدر المعاناة التي يعانيها الشباب من بيروقراطية الدولة تكون ردود الأفعال التي غالباً ما تتسم بالإحباط والنفور والسخط ، إذ ترتبط البيروقراطية إلى حد كبير بأزمة الثقة في المواطن وفي تصرفاته وسلوكياته ، فالفرد مطالب بتقديم مجموعة كبيرة من الوثائق المعتمدة من أكثر من جهة أو إدارة حتى تعزز هذه الوثائق مطلبه... وتنعكس البيروقراطية بشكل حاد على فئة الشباب خاصة وذلك من جراء الحماية التي تزوده بها الأسرة دائماً ، ونعومة الحياة وسلاستها في الفترات الأولى من حياتهم إذ تقوم الأسرة بالعديد من الأدوار التي تحجب الشباب عن التعاملات الخارجية، ومن ثم تتسم أفكار الشباب حيال هذه التعاملات بالمثالية والسطحية، مما يؤدي بهم عند خروجهم إلى معترك الحياة الواقعية إلى المواجهة الحادة للأوضــــــاع القائمة،وبالتالي تؤدي هذه المواجهة إلى اهتزاز مثاليتهم و قيمهم وأفكارهم (8) .

ونخلص مماسبق أن القيم في المجتمع العربي تواجه أزمة حقيقية ،ولاسيما في مجتمع الشباب، حيث يوجد في الواقع " تياران متعارضان في مجرى القيم ،التيار الأول:هو تيار التغيير في القيم ، والتيار الثاني هو تيار الثبات والجمود "(9)،وهذا يعني" توافر مجموعتين من القيم في آن واحد : قيم تقليدية سائدة يتمسك بها المجتمع الحالي ، وقيم أخرى مغايرة يأخذ بها المجتمع المستقبلي "(10).

وهكذا فإن متطلب تغيير القيم لدى الشباب ناتج عن أزمة القيم، والتضارب الواضح بين القيم المعلنة وقيم الواقع،وعدم استيعاب الشباب لأيديولوجية المجتمع غير الواضحة(من وجهة نظر الشباب)، فقد وجد الشباب قيماً مادية متدنية مثل" الرغبة في الثراء السريع، أو الكسب غير المشروع، أو السرقات المقنعة،أو الرشوة أو الوساطة والمحسوبية،رغم كونها قيماً سلبية، إلا أنها تلبي الحاجة الملحة للأفراد التي فرضها عليهم الواقع الاجتماعي الاقتصادي" (11)،مما سبب وقوع بعضهم في الحيرة والتناقض وعدم التقدير السليم لمواقف الحياة ونظرتهم إليها، ذلك لأن من حقوقهم الأولى في الحياة ، العيش بمستوى مقبول، وقدوتهم الكبار الذين وجدوهم في ثراء مغالى فيه،أو في فقر معدم .

ووفق ما سبق فقد بدأت نظرات بعض الشباب تتحول،ووقعوا فرائس الاضطراب وتضارب المثل والقيم وتناقض السلوكيات الاجتماعية المترتبة على ذلك، فالفرد الذي ينشأ في مجتمع يعلي قيمة ما، فما عليه إلا سلوك نفس الاتجاه،وحينما يدرك حقيقة الأمر يبدأ في التفكر،وما حيلة لديه إلا الوقوع في صراعات داخليــة الغلبة فيها للأقوى ، فإما أن تنتصر القيم الإيجابية،أو يلجأ الشباب إلى "الوسائل الهروبية، كأحلام اليقظة،واختلاق أحداث معينة،والغش،والاتجاه نحو تعاطي أو إدمان المخدرات حيث يلمس الشباب في ذلك وسيلة من وسائل الهروب من الصراعات الداخلية،وما يصاحبها من شعور بالنقص لمواجهة وحل هذه الصراعات،وهي محاولة منه لدعم اعتباره لذاته،وللحصول علىما يبتغي من تقدير،كأن يلفق بعض القصص عن عراقة أسرته،نبالة أصله للارتفاع بمكانته وقدره في أعين الآخرين،أو أن يحلق في سماء الخيال (12) .

وتعتقد الباحثة في أنه لا محالة من تغيير القيم في مجتمع الشباب، إيماناً منها بضرورة التغيير توافقاً مع تعاقب الأجيال واتفاقاً مع قول حكماء العرب" ربوا أولادكم على غير تربيتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم ".

فقد يعايش الشباب في المجتمع كثيراً من القيم المتصلة بالحياة ،والموجهة للسلوك،يوجد بينها وبين الممارسات الحقيقية في المجتمع تناقضات كثيرة تؤدي إلى زعزعة الثقة في النظام العائلي والاجتماعي ..وإن ممارسة الفضائل في الحياة ، وجعل القيم والمثل ميزاناً لمعايير السلوك والأخلاق من الأمور الهامة في إزالة هذا التناقض، بالإضافة إلى التزام وسائل الإعلام بالربط بين الأقوال والأفعال، والحقائق والواقع ، كما أن أجواء الحرية في الرأي والفكر، والإرادة والاختيار والرفض والقبول ،والحرية في مواجهة الأخطاء والتصدي لها ؛ من الأمور الهامة في إزالة التناقض بين القيم والمجتمع وإحساس الشباب بالحق في الحرية العامة (13).

وتأسيساً على ما سبق فإنه من العبث أن نجزم بأن الأزمة في ضرورة المحافظة على ثبات القيم ،بل أن الأزمة في اعتقاد الباحثة في مدى صلاحية القيم الجديدة للشباب مع المجتمع العربي الإسلامي من عدمها .

ولا بد أن يبدأ الكبار بترشيد عملية تغيير القيم في مجتمع الشباب حتى لا يدفع المجتمع ثمن اندفاع شبابه عشوائياً وراء عجلة التغيير دون التأكد من قدراتهم على التكيف مع هذا التغيير،أي دون إفراط أو تفريط (14).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سيد أحمد عثمان : التحليل الأخلاقي للمسئولية الاجتماعية ، القاهرة ، الأنجلو المصرية ،1996 ، ص 138 .


2- نجيب إسكندر وآخرون : قيمنا الاجتماعية وأثرها في تكوين الشخصية ، القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية ،1962 ، ص ص 12-22.


3- محمد إبراهيم كاظم : القيم السائدة بين الشباب، القاهرة ، وزارة الشباب ، الإدارة العامة للبحوث ،1970 ، ص ص 28-34.


4- فاروق محمد العادلي : علم الاجتماع العام ، جدة ، دار زهران ،1993 ، ص 249.


5- محمد علي الهاشمي :القيم الكبرى التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية ، الرياض ، الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الإسلام و الحضارة ودور الشباب المسلم ، المجلد الأول ، ط 2 ، 1405 هـ، ص ص 56-66.


6- نادية رضوان : الشباب المصري المعاصر وأزمة القيم ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1997 ،ص، ص 15،122.


7-عثمان فراج : الشباب والتحولات الاجتماعية في الوطن العربي ، المجلة العربية للثقافة ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، العدد 31 ، سبتمبر 1996 ، ص163 .


8- نادية رضوان : مرجع سابق ، ص 186 .


9- يوسف ميخائيل أسعد :الثقافة ومستقبل الشباب ،القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984 ، ص 151.


10- ضياء الدين زاهر : القيم والمستقبل .. دعوة للتأمل ، القاهرة ، مستقبل التربية العربية، المجلد الأول ،العدد الثاني ، أبريل 1995، ص 9 .


11- نادية رضوان : مرجع سابق ، ص 23.


12-المرجع السابق ، ص 73.


13-عباس محجوب : مشكلات الشباب ..الحلول المطروحة والحل الإسلامي ، قطر ، المحاكم الشرعية والشئون الدينية ، كتاب الأمة 11 ، ط 2 ، 1406هـ ،ص 30، 34 .